عندما يخرج نائب الرئيس اللواء عمر سليمان ومعه وزير الخارجية أحمد أبو الغيط ليحذرا على الملأ وفى رسالة واضحة لا تحتمل الالتباس, من احتمال وقوع انقلاب عسكرى فى مصر اذا استمرت الثورة الشعبية التى حركها شباب 25 يناير لاسقاط نظام حكم الرئيس مبارك , فان الأمر يحتاج الى وقفة للرد.
ثمة محاولة تجرى على مايبدو لتخويفنا بالجيش أو منه, وكأن مهمة الجيش هى حماية رجل واحد هو الرئيس حسنى مبارك وليس الشعب المصرى الذى يدفع من قوته ميزانية وثمن عتاد الجيش المصرى بكل أسلحته وقواته العسكرية.
تناسى الجنرال الطويل النحيف اللواء عمر سليمان ومعه أبو الغيط الذى يفترض أنه يشغل منصب رئيس الديبلوماسية المصرية( مع الأسف), أن الجيش ملك للشعب المصرى وأنه لا يمكن أن يقبل الجيش على نفسه أن يتحول الى أداة لقمع الشعب الذى عرف أخيرا وللمرة الأولى منذ عقود طويلة أن يخرج من قمقمه ليطالب رئيسه وحاكمه بالرحيل فى مشهد تاريخى غير مسبوق سيسجله التاريخ بكل احترام واجلال.
سيناريو وقوع انقلاب عسكرى فى مصر بات يطرح بالفعل داخل مؤسسة الرئاسة ويجرى تسويقه الى الشارع فى محاولة للتخويف والترهيب, بيد أن من تفتقت أذهانهم عن هذه الوسيلة لاجهاض ثورة الغضب الشعبية العارمة, تناسوا أنهم يتحدثون عن الجيش المصرى وليس أى جيش آخر.
من المعيب أن يتصور أحدهم أن الجيش سيقف فى مواجهة الشعب أو أن المجنزرات والدبابات المحتشدة فى ميدان التحرير وحوله قد تقوم بضرب المتظاهرين وسحقهم, كما حاولت فى السابق شرطة المأسوف عليه وزير الداخلية المقال الجبيب العادلى وفشلت.
دستوريا فان مهمة الجيش المصرى بالاضافة الى الحفاظ على أمن البلاد ومواجهة أى محاولة خارجية للعتداء على الأراى المصرية, هى حماية الشرعية, لكن عن أى شرعية نتحدث هنا تحديدا ؟.
المروجون لسيناريو الانقلاب العسكرى يتناسون عن عمد أن ميدان التحرير ليس هو الميدان السماوى (ساحة تيان أنمين ) فى العاصمة الصينية بكين عندما اجتاحت دبابات الجيش الصينى المكان لضرب من تظاهروا من أجل الديمقراطية ما أدى الى مقتل وجرح الآلاف ليلة الثالث والرابع من يونيو عام 1989.
ينبغى ان يفهم الجميع أن شرعية الرئيس مبارك قد انتهت كليا والى الأبد وأنه يجلس فى مكتبه بقصر الاتحادية بمصر الجديدة الذى تحول الى ثكنة عسكرية بكل معنى الكلمة, لأن الشعب لم ينقل الثورة بعد من ميدان التحرير الى قصر الرئاسة.
الشرعية الآن هى للشعب , وللشعب وحده فقط, والجيش باعتباره قد أقسم يمين الولاء للشرعية كما يقولون فعليه حماية الشرعية التى هى أساس الحكم , ألا وهى الشعب مصدر كل السلطات ورئيس كل المؤسسات بلا منازع.
من يحاول وضع جيش قوامه 400 ألف مقاتل فى مواجهة شعب يتجاوز تعداده الثمانين مليونا يرتكب خطأ قاتلا وعليه تحمل وزره وعواقبه الوخيمة.
شرعية مبارك زالت وعليه أن يفهم ويتفهم أن الشعب المصرى قد مزق العقد الاجتماعى معه وأن هذا العقد أصبح ورقة بالية لا قيمة لها بعدما رفع الشعب شعاره المقدس والعبقرى لتغيير النظام بكل رموزه وأشخاصه وسياساته.
على الرئيس أن يعى أن الشعب قد أنهى التعاقد معه من طرف واحد , وأنه يحق له قانونا وشرعا أن يبحث لنفسه عن قيادات جديدة تقوده الى مرحلة مختلفة ومتقدمة من النمو والاذدهار بعد سنوات حكمه العجاف.
الرئيس الذى يسكن فى مصر الجديدة حتى من قبل منذ توليه السلطة عام 1981, يجهل أنه يعيش اليوم فى مصر جديدة تماما عليه, وأنه بات اليوم والآن ازاء شعب عركته المحن والأزمات وأن هذا الشعب الصبور قد فاض به الكيل وطفح, وأنه لا يريده بعد الآن فى سدة الحكم.
الساكن فى مصر الجديدة يتصور أنه يحكم نفس الشعب الذى لم يعترض على توليه منصب الرئاسة خلفا لسلفه الراحل أنور السادات فى ظروف عصيبة ومؤلمة قبل ثلاثين عاما,لكن هذا التصور الخاطىء أدى بالرئيس وحاشيته ومساعديه الى استنتاجات ليست فى محلها وغير صحيحة جملة وتفصيلا.
اذا كان الجنرال وأبو الغيط يستخدمان تعبيرات الانقلاب والتخويف منه كفزاعة جديدة للمصريين بعد سقوط فزاعات أخرى استخدمها نظام مبارك للبقاء فى السلطة كل هذه الحقبة الزمنية الطويلة, فانهما يرتكبان أيضا نفس أخطاء الرئيس فى عدم فهم الرسالة التى أطلقها المحتجون ومازالوا فى قلب ميدان التحرير.
الجيش المصرى هو جزء من هذا الشعب وهو مطالب الآن أكثر من أى وقت مضى بأن يحسم خياراته, اما بالوقوف الى جانب الرئيس مبارك وعائلته, باعتباره رئيسا قد نزع الشعب اللمصرى شرعيته وأطاح بها فى غمضة عين كلفته مئات الشهداء وآلاف القتلى, واما بالوقوف الى جانب وكنف شعب لن يرتضى سوى رحيل الرئيس واعادة بناء دولة جديدة تليق بمكانة مصر وعراقة شعبها وبحجم تضحياته وثورته.
ألم ينقلب الرئس فى السابق على الشرعية بتمكينه نجله جمال من رقبا البلاد والعباد وزنا المحارم بين السلطة ورجال الأعمال؟ , ألم يتجاهل الرئيس قسمه بحماية أمن ومقدرات الشعب والعمل على حماية مصالحه وتغافل عمدا عن أن يكون فى خدمة الشعب الذى يدفع له راتبه.
ألم يفقد الرئيس سيطرته ونفوذه على أقرب وزرائه أعنى هنا العادلى وزير الداخلية السابق الذى قاد البلاد الى يوم أسود وأيأم أكثر سوادا بضربه المطالبين بالاصلاح والتغيير , على نحو جعلنا جميعا على شفا حرب أهلية .
اذا كانت العلاقة بين الشعب والرئيس هى عقد عمل فقد مزقه الشعب, واذا كانت علاقة ملك بمستأجر فان المالك الحقيقى للبلد هو الشعب وليس الرئيس , واذا كانت العلاقة هى بين الخادم والمخدوم فالشعب هو المخدوم والرئيس هو الخادم وليس العكس.
التخوف من الانقلاب قد يكون صحيحا لكن دعونا نسأل أى انقلاب وعلى من سينقلب الجيش .. هل على الذي بعناده وعدم خضوعه لرغبة الشعب سد كل الطرق التى كانت مفتوحة لتأمين خروج مشرف وممر آمن للوطن بأكمله؟
أما ان المقصود هو تخويف الشعب من الجيش والايحاء بان الجيش المصرى سينقلب على مواطني؟ وهذا وهم لا يجب تصديقه واحتمال ضعيف لا سند له.
لقد شاهدنا جميعا تلك الصور المعبرة لعربات ودبابات الجيش المصرى التى تجوب الشوارع وعلى جانبيها عبارات كتبها المتظاهرون ولم يزيلها الجنود ضد مبارك وحكمه, هذه لقطة معبرة توحى لمن يريدون لنا أن نكره جيشنا وأن ندخل معه فى عراك دموى, أنهم بكل تأكيد على خطأ.
قد يكون مبارك دستوريا هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الآمر الناهى فى المؤسسة العسكرية بكل تشكيلاتها المقاتلة, لكن على الجميع أن يعى أن الشعب كان وسيظل هو من يتعين على الجيش ورئيسه وضباطه العظام أن يتلقوا منه الأوامر والتعليمات باعتباره القائد الأوحد وصاحب الشرعية الوحيدة والمطلقة.
لن يتمكن أحدهم مهما كان قدره ورتبته العسكرية من ايقاف المد الثورى المتعاظم لغضب الشعب المصرى, وهنا على الجميع سواء أن يفهم جيدا أن التاريخ لن يرحم من يرفع سلاحه فى مواجهة قبضة الشعب الأعزل.
ندرك جميع ان رؤساء الجمهورية الأربعة الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ عام 1952 خرجوا من رحم المؤسسة العسكرية, لكن هذا لا يعنى مطلقا تصور أن بامكان الجيش أن يحكم أو أن يتولى السلطة فى ظل غضب الشعب ورفضه وثورته.
فى مسرحيته العبقرية " نهر الجنون" يقول توفيق الحكيم على لسان الوزير للملك المندهش لما يفعله شعبه الذى بدأ يشرب من ماء نهر يقوده للجنون," الحق والعقل والفضيلة ، كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً. وهم وحدهم أصحابها الآن.
وعندما يتساءل الملك فى فزع وخوف وأنا؟ يرد الوزير بكل ثقة :" أنت بمفردك لا تملك منها شيئا"ً.
الأن أظن أن الحق والعقل والفضيلة هما للشعب , وللشعب وحده, اما الرئيس فمع كل أسف وحسرة وألم , فلم يعد لديه أى رصيد من هذه الكلمات والمعانى.
سواح ايجى
إرسال تعليق